الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، نبيِّنا محمد عليه الصلاة والسلام، ومَن اتبع هداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالإنسان يعيش في تقلُّبات الدهر وله متطلَّباتٌ وأمنيات، ومحبوبات ومكروهات، وأمور فيها خيرٌ ونفع له، وأمور فيها شرٌّ وضرر عليه؛ ولذا نجده في أموره وشؤونه بين خمسة أحوال، وهي:
الحالة الأولى: أمر لا يهمه وجودُه أو عدمه، ولا يلحقه منه خيرٌ أو شر.
فعلَّمنا نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم أن نتصرَّف في هذه الحالة بقوله عليه الصلاة والسلام: ((مِن حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه))، فإن كان الإنسان سيترك ما لا يعنيه، فمِن باب أَولى أن يترك ما يضرُّه، وينشغل بما ينفعه في دنياه وآخرته.
الحالة الثانية: أمر مطلوب أو محبوب، أو فيه خير له.
وكلُّ ما في الوجود، فالله عز وجل هو الذي خلقه وأوجده؛ قال تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الزمر: 62].
وهو الغنيُّ سبحانه وتعالى، الذي له ملكُ كل شيء؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 158].
وهو سبحانه القادر المدبِّر لكل أمر؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 31].
وهو الرازق الذي بيده الخير كلُّه؛ قال تعالى: ﴿ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26]، فهو سبحانه الكريم الجواد المحسن، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كريمٌ يحب الكرماء، جَوَادٌ يحب الجودة، يحب معالي الأخلاق ويكره سَفْسافها))، فكرمُه سبحانه وتعالى لا ينفدُ، وعطاياه لا تُحدُّ، ونِعَمه لا تحصى، قال تعالى: ﴿ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [يونس: 1077].
الحالة الثالثة: ما يستعين به في إدراك المطلوب أو نيل المحبوب، أو تحصيل ما فيه خير.
وخير ما يُستعان به لتحقيق هذا الأمر، هو الاستعانة بالله العليم الخبير، قال تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، فالله عز وجل هو وحدَه القادر على كل شيء، ولكمال قدرته فإنه لا يعجزه شيءٌ ألبتة، قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 189]، فأعظم مُعِين للعبد في قضاء حوائجه هو استعانته بربِّه ومولاه جل وعلا، قال تعالى: ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 1288].
وهو سبحانه السميع البصير، المجيب لدعوة الداعين، ويحب أن يستعين به عبدُه، ويتوسل إليه، ويلجأ إليه في كل شيء، قال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القويُّ خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ، احرِصْ على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تَعجِزْ، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَرُ الله وما شاء فعل، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان)).
الحالة الرابعة: أمر مستكرَه، أو مبغوض، أو فيه شر له.
والله عز وجل هو الذي خلق الخيرَ والشر، قال تعالى: ﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [المائدة: 17]، وقال تعالى: ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 78].
وأفعاله سبحانه وتعالى فيها رحمة وعدلٌ وحكمة؛ قال تعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 73].
وهو المدبِّر للأمور كلِّها، ولا يخرج عن تدبيره شيء؛ قال تعالى: ﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ﴾ [السجدة: 5].
وهو الملِك الذي له مُلك كل شيء، ولا يخرج عن ملكه وسلطانه شيءٌ؛ قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 17]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 102].
الحالة الخامسة: ما يستعين به في إبعاد المستكرَه، أو دفع المبغوض، أو دحر ما فيه شر.
والله العزيز الحكيم هو أعظم مَن يُعتَصم به ويُلجَأ إليه، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا ﴾ [يونس: 12]، وقال تعالى: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ﴾ [الأنفال: 9].
وهو سبحانه أفضل وأكبر وأكرم مَن يُستجار به، قال تعالى: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ [الفلق: 1]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾ [الناس: 1]، وقال تعالى: ﴿ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ [النحل: 53].
فلا ملجأ ولا منجى إلا إليه جل وعلا؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ﴾ [يونس: 107].
وهو القاهر القهار، وكل ما في الوجود هو تحت قهره وملكه وقدرته؛ قال تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [الرعد: 16]، وقال تعالى: ﴿ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 27].
وبهذا يتبين أن الإنسان فقير ذليل، محتاجٌ إلى ربه في كل أحواله وشؤونه، والله عز وجل غنيٌّ عن خلقه بكلِّ وجه من الوجوه، فهو سبحانه الذي لا مانع لِما أعطى، ولا مُعطي لِمَا منع؛ قال تعالى: ﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [فاطر: 2]، وأما غيره، فلا يملك ضرًّا ولا نفعًا إلا بإذن الله تعالى، فهو سبحانه مَن يُرجَع إليه الأمرُ كله؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنعام: 17]، وقال تعالى: ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ﴾ [الفرقان: 555]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((يا غلام، إني أعلِّمك كلمات، احفَظِ الله يحفَظْك، احفَظِ الله تجِدْه تجاهَك، إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعِنْ بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمَعتْ على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَتِ الأقلام، وجفَّتِ الصُّحف))
فاللبيبُ الذكي هو الذي تكون أقواله وأفعاله الظاهرة والباطنة كلُّها لله عز وجل، فيجعل حياته كلَّها لله عز وجل؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]، ولا يتحقَّق ذلك إلا باتِّباع كتاب ربِّنا عز وجل، وسُنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، على فهمِ سلف الأمة من الصحابة رضوان الله عليهم ومَن سار على دربهم، وأن يكونَ الله جل جلاله أحبَّ إليه مِن كل ما سواه، قال صلى الله عليه وسلم: ((قل: اللهم إني أسألك فعلَ الخيرات، وتركَ المنكرات، وحبَّ المساكين، وأن تغفِرَ لي وترحمَني، وإذا أردتَ فتنةً في قومٍ فتوفَّني غير مفتون، وأسألك حبَّك وحبَّ مَن يحبك، وحب عملٍ يُقرِّب إلى حبك))، وأن يفوِّض أمره كله لله رب العالمين؛ قال تعالى عن مؤمن آل فرعون: ﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [غافر: 444].
وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.