مقصود الشارع من الأعمال هو دوام المكلف عليها، ودليل ذلك واضح ؛ قال تعالى: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99]؛ أي: الموت: فالانقطاع وعدم الثبات والمداومة هذا نذير شر، قال تعالى: ﴿ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ [مريم: 31]، وقال تعالى: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23].
وقال صلى الله عليه وسلم: (عليكم من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، وكان إذا عمل عملًا أثبته)؛ أي: داوم عليه؛ (متفق عليه).
وكان صلى الله عليه وسلم إذا فاته شيء من صلاة الليل لنوم أو مرض، صلاَّه من النهار اثنتي عشرة ركعة؛ (رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها).
وسئلت عائشة رضي الله عنها: أي العمل كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: "الدائم.."؛ (رواه البخاري).
وسئلت رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخص شيئًا من الأيام؟ قالت: "لا، كان عمله دِيمة..."؛ (رواه مسلم).
المداومة على العمل الصالح سبب لطهارة القلب من النفاق وعنوان على الإخلاص:
لأن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، والقلب هو الأصل؛ فبعلاج القلب يصح الجسد كله، وبفساد القلب يفسد الجسد كله؛ كما في الصحيحين، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
المداومة على العمل الصالح سبب لمحبة الله للعبد:
في صحيح البخاري، قال عليه الصلاة والسلام: قال الله تعالى: "وما تقرَّب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورِجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته، وإن استعاذني أعذته..".
من أعظم ثمار المداومة على العمل الصالح حسن الخاتمة والفوز بالجنة:
قال الحافظ ابن كثير: "لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعِث عليه"
فلا يزال المؤمن يجاهد نفسه على طاعة الله، حتى يُختم له بحسن الخاتمة؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [العنكبوت: 69].
وفي الحديث: (إن الله إذا أراد بعبده خيرًا استعمله، قيل: كيف يستعمله؟ قال: يوفِّقه لعمل صالح، ثم يقبضه عليه)؛ رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني.
كيف يجاهد الإنسان نفسه على المداومة على العمل الصالح؟
1- الاستعانة بالله جل وعلا؛ فإن من أعانه الله فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول؛ فاطلب العون من الله تعالى أن يُسددك ويوفقك ويؤيِّدك، وأن يعينك على العمل الصالح الذي يُرضيه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (يا معاذ، والله إني لأُحبك، فلا تَدعن دُبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)؛ رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني.
2- صحبة الأخيار الذين يعينونك على طاعة الله:
لأن الإنسان قد ينشط إذا رأى إخوانه من حوله على طاعة الله، وقد يشعر الإنسان بالخجل من نفسه إذا رأى إخوانه في طاعة الله وهو مقصر، فاصحَب الأطهار والأخيار، وأهل الفضل والعلم والصلاح الذين إذا رأيتهم تذكرك رؤيتهم بالله عز وجل؛ كما في الحديث: (إن من الناس ناسًا مفاتيح للخير مغاليق للشر)؛ رواه ابن ماجه وسنده صحيح.
3- الأخذ بالتوسط والاعتدال في الأعمال، وترك الإفراط والتشديد على النفس، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم - وقد مرَّ -: (عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا...)؛ رواه مسلم.
وحين دخل النبي صلى الله عليه وسلم فرأى حبلًا ممدودًا بين ساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ فقالوا: لزينب تصلي، فإذا فترت تعلقت به، فقال صلى الله عليه وسلم: حُلُّوه؛ ليُصَلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد)؛ متفق عليه.
4- تعويد النفس على قضاء الفائت من صلاة أو صيام، أو وِرد ذكرٍ، أو وِرد قراءةٍ، أو حتى صلة وتزاوُر، أو غير ذلك، وعدم التفريط في ذلك؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم قد ربى أصحابه على ذلك حين قال: (من نام عن حزبه من الليل أو عن شيء منه، فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كُتِب له كأنما قرأَه من الليل)؛ رواه مسلم.
صورة مشرقة:
بلال الحبشي، الذي رفعه الإسلام إلى درجة عالية، حتى قال الرسول يومًا: (يا بلال، حدِّثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دَفَّ نَعليك بين يدي في الجنة)، فقال: "ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهَّر طُهورًا في ساعة من ليل أو نهار، إلا صليت بذلك الطُّهور ما كُتب لي أن أُصلي"؛ رواه الشيخان.