إخواني، لا يخفَى عليكم معنى الأخوَّة في الله تعالى، وتميُّزُها عن الأخوَّة في الدنيا، وإن شئتم إيضاحًا، فاعلموا رحمكم الله:
أن المحبة قد تكون لذات الشيء، أو موافقته للطبع، لا لفائدة تُرجى منه؛ كما تحب شخصًا لفطنته وفصاحته، أو لحسن منظره وجمال منطقه، أو جمال خلقه، وأحيانًا تستحكم المودَّة بين شخصينِ من غير ملاحةٍ في صورة، ولا حسن في خَلق ولا خُلق، ولكن لمناسبة خفية توجب الألفة والموافقة، وشبيهُ الشيء منجذبٌ إليه، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ يقول: ((الأرواح جنودٌ مجنَّدة)).
وهذا حبٌّ بالطبع، وفيه مُتَعة النفس، فإن اتصل به غرضٌ مذموم، كان حبًّا ذميمًا، وإلا فهو مباح لا يُحمد ولا يُذم.
وقد تكون المحبة وسيلةً إلى حظٍّ دنيوي، كما تحب امرأً لأنه يجلبُ لك خيرًا، أو يدفع عنك شرًّا، وكما تحب آخر لأنه أفادك مالًا أو علمًا تصلح بهما عيشك.
وأكثر ما تكون المحبَّة بين الناس للحظوظ العاجلة والمنافع الدنيوية، فهذا يحب صاحبه؛ لأنه يقضي له حاجة أو يدفع عنه أذى، وذاك يحب أستاذه لأنه يُفيده علمًا يكتسب به منزلة وجاهًا، وثالث يحب ذا رتبةٍ ليتقرَّب به إلى أمير أو سلطان.
وهذه المحبة وأمثالها وسيلةٌ إلى غرض محبوب، قد تنقضي بانقضائه، وهي مِن نوع حب الناس للذَّهب والفِضة؛ إذ هما لا يُقصدان لِذاتهما، ولكنهما وسيلة إلى المحبوبات، فالمحبوب في حقيقة الأمرِ هو المقصود فيهما، وحكم هذه المحبة حكم المقصود منها، فإن كانت وسيلةً إلى الإيذاء أو التعالي والتفاخر، فهي محرَّمة مذمومة، وإن كانت وسيلةً إلى مباح، فهي مباحة.
وقد تكون المحبة للحظوظ الأخروية؛ كمَن يحب أستاذه لأنه وسيلة إلى تحصيل العلم وتحسين العمل، وغرضه من علمه وعمله الفوزُ في الآخرة، وكمَن يحب تلميذه لأنه سبيلٌ إلى نشر العلم النافع، وهداية الخلق، وكمَن يُحِب الأمير ليُعينه على العدل في الرعية، ويقضي به حاجات العباد، وهذه هي المحبة لله تعالى، وهؤلاء هم مِن المحبِّين في الله تعالى.
ومنهم مَن يحب الدنيا لا لذَاتِها، ولكن ليتَّخِذها مطية للدار الآخرة، وعلامتُه ألا يحزن عليها إذا فاتَتْه، ولا يفرح بها إذا جاءَتْه، وعلامته أن يكون شكورًا صبورًا.
ومنهم مَن يتزوج امرأةً صالحة ليتعفَّف بها ويعفَّها، أو لتعينه على الصلاح والتقوى.
وكذلك من أحب خادمًا لمهارتِه في إكرام الضيف تقربًا إلى الله تعالى، فهو من جملة المحبين في الله.
وجملة القول أن المحبة في الله هي التي يكون باعثُها أمرًا يحبه الله تعالى؛ ومن أجل هذا جاز أن يجتمع في القلب الحبُّ لله والحب للحظوظ النفسية المباحة؛ كمَن يحب إنسانًا لأنه يكفيه دينَه ودنياه، فله من ثواب الحب في الله بمقدار حبه، ولا يشترط في الحب لله ألا يحب حظًّا عاجلًا ألبتةَ، كيف وقد قال الله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((اللهم أصلِحْ لي ديني الذي هو عصمةُ أمري، و...)) الحديث؟
والحب في الله على قدر الإيمان به؛ ومِن أجل ذلك كان على درجاتٍ شتى، وقد يقوى حتى يكونَ لله وفي الله خالصًا لوجهه الكريم.